الحدث | 4-2-2012
تكلفة التحول الديمقراطى يمكن أن تكون منخفضة نسبيا ويمكن أن تكون مرتفعة نسبيا ويمكن أن تكون مرتفعة لدرجة الردة وبالتالى العودة إلى الماضى.
وكما كتبت من قبل فإن دولا كثيرة حاولت ونجحت ولكن بتكلفة عالية للغاية. دولة مثل بنجلاديش ظلت تحاول منذ 1974 وبدأت بوادر نجاح التحول الديمقراطى فى مطلع هذه الألفية، وبعدها بثلاث سنوات بدأت بنجلاديش فى طريق التنمية الشاملة مع خطة لإنشاء أكبر ميناء فى جنوب آسيا وواحد من أكبر مطارات آسيا. معدلات الأداء الاقتصادى فى تحسن لدرجة أن الاقتصادى الهندى الحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد، آمارتيا سن، وصف التقدم فى الأداء الاقتصادى فى بنجلاديش بأنه أفضل من نظيره فى الهند. ولكنه نجاح أعقب فشلا تاريخيا استمر ثلاثة عقود مع تكلفة باهظة للغاية.
تحدثت من قبل عن كينيا وبوليفيا اللتين وصلتا فى النهاية إلى خط النهاية فى عملية التحول الديمقراطى ولكنهما دفعتا ثمنا عاليا ومبالغا فيه. والحقيقة أن مصر تسير على نهجهما فى ما يتعلق بأهم خطأين وقعا فيهما. أولا، غياب خارطة طريق واضحة بإجراءات محددة يدعمها تأييد شعبى عبر استفتاء أو انتخابات أولية ويتراضى الجميع على مشروعيتها من البداية. ثانيا، تطويل عملية التحول الديمقراطى وكأن الوقت مورد غير محدود، ولمن يعلم فإن الوقت عنصر رئيسى فى هذه الحسبة لأن الثورة تقوم لأهداف محددة يقوم عليها إما طليعة الثورة إن وصلت إلى السلطة أو الجهات المنتخبة فى أعقاب الثورة، والتطويل يعنى فى نظر الثوار أن الثورة فشلت، وبالتالى إما ثورة جديدة أو الثورة مستمرة.
دولة مثل كينيا بدأت تجربتها الديمقراطية فى 2001 وكانت نقطة البداية «خريطة طريق» بدأت بقانون «مراجعة دستور كينيا» وكان القانون يمثل إطارا إجرائيا محكما لتحقيق مشاركة شعبية واسعة تتضمن مؤتمرا دستوريا وطنيا كمنبر لتبادل الآراء فضلا عن لجان استطلاعية انتشرت فى البلاد لمعرفة تطلعات الناس وترجمتها إلى مواد فى الدستور الجديد. وكان من المفترض، وفقا للخطة الأصلية، أن ينتهى هذا الجهد فى عام، ولكنه استمر ثلاث سنوات، لأن البعض هناك فزع وأفزع الناس خوفا من دستور جديد سريع تسيطر عليه قبيلة معينة. المهم أنه فى ربيع 2004 انتهت جهود تجميع هذه الاقتراحات وصولا إلى «لا شىء ضخم» لأن الأغلبية البرلمان كانت انشغلت بقضايا أخرى وتراجعت أهمية فكرة تغيير الدستور إلى أن بدأت المعارضة تدخل فى اعتصامات وإضرابات وغلق طرق. وهنا بدأ المشروع يتحرك مرة أخرى فى البرلمان حيث بدأت الأغلبية، مضطرة، تطرح أفكار الدستور على البرلمان مع تعديلات كبيرة عما طالب به المواطنون أصلا من ضمنها أنها أعطت رئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة بما فى ذلك حقه فى تعيين رئيس الوزراء بدون العودة للبرلمان عكس رغبة أغلبية القوى السياسية. الطريف أن الشعبى الكينى الشقيق فى استفتاء 2005 رفض مسودة الدستور بأغلبية 57 بالمائة من الأصوات. أرجو قراءة الجملة الأخيرة مرة أخرى: الكينيون رفضوا مسودة الدستور لأنه لم يكن ملبيا لطموحاتهم. واستمر العمل بالدستور القديم خروجا على خريطة الطريق الأصلية مرة أخرى وصولا إلى انتخابات معيبة فى 2008 انتهت إلى المزيد من الشغب والعنف وأخيرا تعلم الكينيون أن الحل اسمه: «التزام خريطة الطريق المتفق عليها». وتم تصحيح الأخطاء بتشكيل لجنة من الخبراء السياسيين والقانونيين تم تكوينها من ستة كينيين وثلاثة غير كينيين: واحد من زامبيا وآخر من جنوب أفريقيا وآخر من أوغندا. وقامت اللجنة بعمل خطة عمل تضمنت النقاش المتخصص (حيث لم تقم اللجنة باستطلاع آراء الناس مرة أخرى) حول مواد الدستور المثيرة للجدل (ومعظمها بالمناسبة فى الجزء الخاص بصلاحيات رئيس الدولة وعلاقته بالبرلمان ورئيس الوزراء، أى ما يعادل آخر ثلاثة أبواب فى دستور 1971). كما تضمن عمل اللجنة كذلك إعداد برامج للتربية المدنية والديمقراطية وتدريب الناس على قبول الآخر. وأخيرا أقر الدستور فى 2010 بأغلبية 67 بالمائة بعد 10 سنوات من الصراعات ودخلت كينيا دائرة «الديمقراطيات الناشئة.»
وإذا كان للإنسان أن يطرح سؤالا تفسيريا وهو من المسئول عن النجاح أو الفشل فى هذا التحول الديمقراطى. نقطة البداية فى التفسير هى الجهة القابضة على عملية التحول الديمقراطى ومدى قدرتها على تحقيق الخروج الآمن للوطن من حكم الاستبداد إلى الحكم الديمقراطى. وفى حالة مصر تحديدا، فإن هذه الجهة هى المجلس الأعلى للقوات المسلحة والذى أمامه أربعة بدائل تتمحور حول قضيتى: التسليم والمساعدة.
البديل الأول، أن يسلم السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطيا بالإضافة إلى مساعدة الدولة والمجتمع على تحقيق نهضة حقيقية من خلال الموارد البشرية والمادية المتاحة للقوات المسلحة كما هو الحال فى الكثير من الدول التى تحولت فيها القوات المسلحة إلى جهاز مهنى دفاعى وتنموى. وقد شهدت العديد من الدول تجارب بارزة لتجسد هذا المعنى مثل شيلى والبرازيل.
البديل الثانى، هو أن تقوم القوات المسلحة بتسليم الحكم إلى الحكومة المنتخبة لكنها لا تقوم بمساعدة الدولة والمجتمع على تحقيق نهضة تضمن الاستقرار السياسى والاقتصادى لاحقا. وهذا عادة يكون مؤشرا على أن القيادات العسكرية لديها نية للعودة مرة أخرى لإدارة شئون البلاد مع أول فرصة أو أن لديها رغبة فى أن تتحكم دون أن تحكم مثلما هو الحال فى باكستان وفى كوت دى فوار.
البديل الثالث، هو ألا تقوم القوات المسلحة بتسليم السلطة (أى تتولى بنفسها ومن خلال أحد أو بعض قياداتها تولى السلطة) وتقوم برفع معدلات النمو الاقتصادى ووضع البلاد على طريق التنمية الشاملة مثلما شهدت كوريا الجنوبية تحت حكم الجنرال «بارك هى» وكذا تايوان تحت حكم « تشان كاى تشيك».
أما البديل الرابع والأسوأ فهو نموذج السلطة العسكرية التى لا تسلم السلطة للحكومة المدنية المنتخبة ولا تساعد على بناء الدولة والمجتمع وهو ما أنتج نموذج الدولة النهابة (predatory state) على نمط زائير فى ظل حكم موبوتو سيسيسيكو ونيجيريا فى ظل إبراهيم بابنجيدا.
الاختيار العاقل والوطنى الوحيد هو البديل الأول. ولكن هل هكذا يفكر قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟ لا أدرى، ولكن المؤشرات تؤكد أن مزيدا من الوقت يعنى أن المجلس الأعلى يحفر حفرة عميقة وتزداد عمقا كل يوم وهو لا يفكر كيف سيخرج منها.
أزعم أن المجلس الأعلى ومعه النخبة السياسية قررت أن تظل تعبث فى «الزراير» حتى لا تقرأ كاتالوج التحول الديمقراطى، وتسير على نفس النهج القديم الذى قال عنه الرئيس جمال عبدالناصر: «منطق التجربة والخطأ». وهو أمر خطير مع دولة بهذا الحجم ومع نخبة شبابية بهذا الفائض من الحيوية. إن السياسة هى فن التوفيق، وليس المفاضلة، بين الأهداف المتعارضة. وهذا فن لا يجيده إلا رجال الدولة ممن تمرسوا على ذلك وجُبِلوا عليه، ولا أرى أمامى فى المجلس الأعلى من يجيده، حتى وإن كان ما يتقنونه حقيقة هو الأعمال العسكرية.
أرجوكم فلنفكر جميعا فى خروج آمن للوطن، ولتكن نقطة البداية التعجيل بفتح الباب للانتخابات الرئاسية وأن يعود المجلس الأعلى إلى مهمته المقدسة عاجلا وليس آجلا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
شكرا لك