9-10-2011
تقرير مصطفى الراوى
هذا تقرير مفصل لما ورد من احداث مصنع اللانشون
هذا تقرير مفصل لما ورد من احداث مصنع اللانشون
فى المدرسة تفتح «هاجر» كيس الشطائر وتلتهم ما فيه قبل أن تنتهى دقائق الفسحة، وما إن يدق الجرس معلناً بدء الحصص مرة أخرى حتى تشعر «هاجر» بآلام تهاجم معدتها، تنصحها زميلتها بالتوجه للعيادة المدرسية، لا تقوى على السير بمفردها فتعتمد على كتف زميلتها التى تحمل عنها عبء الحديث أمام الطبيبة «بطنها وجعاها أوى يا دكتورة وعايزة أى دوا». تسأل الطبيبة «هاجر» فى هدوء: «أكلتى إيه النهارده؟». بتلقائية شديدة ترد «هاجر»: «ساندوتشات لانشون». تصف لها العلاج سريعاً «مسكنات للألم»، مع التنبيه على ضرورة إجراء تحاليل طبية حتى لا يتكرر الألم.
«هاجر» واحدة من عشرات التلاميذ بمدرسة المنيرة الابتدائية بالقاهرة الذين يطرقون باب العيادة الصحية بالمدرسة يوميا بحثا عن علاج لآلام المعدة، وهو ما أكدته الدكتورة «سوزان قناوى» طبيبة المدرسة، فكما تقول: «شكاوى وجع المعدة كثيرة ومختلفة إلا أن غالبية الحالات المَرَضية تكون قد تناولت لانشون فى طعامها». تناول اللانشون صار أمرا محظورا بتعليمات الطبيبة لكل التلاميذ، غير أن حظر الطبيبة يذهب أدراج الرياح، إذ إن رخص سعر اللانشون وسهولة تحضيره يؤهلانه لأن يكون الأبرز فى وجبات الإفطار بعيدا عن أى تحذيرات وهو ما أكدته والدة إحدى التلميذات، قبل أن تذيّل كلامها بسؤال عفوى: «هو اللانشون ده بيتعمل من إيه؟».
سؤال الأم كان محركنا للحصول على إجابة له. فقط سألنا أنفسنا بدورنا: «من أين نبدأ؟» جاءتنا الإجابة مدونة على عبوة لانشون حصلنا عليها من أحد منافذ البيع «مصنع (ص.ع) لإنتاج اللانشون»، أسفل العبارة كان العنوان مدوناً بوضوح، وكان الطريق للمصنع معروفاً. هناك سوف نحصل على إجابة لسؤال الأم، هناك سوف يمكننا التعرف على طريقة صناعة اللانشون، وآلية العمل، وإدارة المكان، والأسباب التى تجعل طبيبة المدرسة تحظر على التلاميذ تناوله، وكيفية تلافى تلك الأسباب، غير أن السؤال الذى طرح نفسه بقوة: «كيف ندخل المصنع؟».
لم يكن الدخول إلى أماكن تصنيع اللحوم بالمهمة السهلة على الإطلاق. فالمسؤولون والعمال لن يكشفوا عن المخالفات إن وجدت، كما أنهم لن يسمحوا لصحفيين بالتواجد فى أماكن التصنيع إذا كان هناك ما يشوب تلك العملية من تجاوزات، السبيل الوحيد هو التخفى للعمل داخل المصنع حتى نتمكن من الرصد الدقيق لعملية التصنيع بالصوت والصورة، كانت المهمة شاقة للغاية، غير أن الهدف فى النهاية هو المصلحة العامة، وعلى ذلك قررنا خوض المغامرة.
البداية كانت أمام المصنع الشهير، مراقبة دقيقة لمواعيد دخول وخروج العمال والعاملات، كيفية تحركهم، أشكالهم، تصرفاتهم، من أين يأتون، وإلى أين يذهبون. لم تمض سوى بضعة أيام حتى كان الطريق إلى المصنع مفتوحاً بالنسبة لنا كعاملات باليومية. وفى تمام الثامنة صباحاً كنا نقف أمام باب المصنع، فى نفس اللحظة يصل للمكان أتوبيس خاص قادم من محافظة المنوفية، تهبط منه ما يقرب من 20 فتاة تتراوح أعمارهن بين 14 و23 عاما، يتسلمهن مقاول الأنفار بمجرد وصولهن ليرشحهن لمسؤول العمل فى المصنع للعمل باليومية، نندس وسطهن قبل أن نجد أنفسنا فجأة أمام المقاول الذى قلب عيونه فينا فلم يبد عليه أى ارتياب فى هيئتنا، دقائق قليلة يشرح لنا فيها العمل الذى سنقوم به داخل المصنع، وبعد أن يتأكد من استيعابنا المهمة يسلمنا لمسؤول الأمن.
على مقعد خشبى صغير جلس الرجل الضخم وسط عدد كبير من العمال، راح كبار السن منهم يلبون احتياجات «الكبير» كما كانوا ينادونه، همس إليه أحدهم: «همه دول البنات الجديدة يا كبير». ركز بصره فينا بحدة قبل أن يسألنا باهتمام: «معاكوا بطايق؟»، جاء ردنا ممزوجاً بقلق ظاهر «أيوه معانا»، يدقق النظر فى البطاقات الشخصية ويقول بسرعة: «إنتوا طلبة وعايزين تشتغلوا.. طب إزاى؟» نتحجج بظروف المعيشة الصعبة، فيظهر الاقتناع على وجهه وينهى الموضوع بمنح الموافقة فندخل على الفور.
لا يخلو الأمر من مشاعر متضاربة تنتابنا فى تلك اللحظات التى ندخل فيها بأقدامنا إلى ذلك العالم المجهول، عما قليل سيبتلعنا المصنع بأسواره وأبوابه وآلاته ولا أحد يعلم عنا شيئاً، أسئلة كثيرة تجول بخاطرنا حول المصير الذى ينتظرنا لو حدث وتعرف أحد من العمال على هويتنا، إجابات كثيرة تطوف بخاطرنا، وساوس وظنون وسيناريوهات مرعبة ينسجها خيالنا، نحاول أن نطردها ونحن نتسلم مهام عملنا داخل مصنع اللانشون من مسؤول الأمن الذى يشير لنا بأصابعه إلى مكان تسلم العمل.
طابقان يفصلان بين غرفة الملابس ومكان تحضير اللانشون، والوصول إليها ليس صعبا فيمكن استخدام السلم أو مصعد نقل اللحوم المجمدة الذى يتقاسمه العمال مع «حلل العجين»، نقف فى انتظار هبوط المصعد لكى نصل من خلاله إلى تلك الغرفة، لكنه لا يأتى فنضطر إلى الصعود على السلم الذى من خلاله نمر بشكل عابر على طابق صناعة البسطرمة الذى تختلط فيه رائحة الثوم برائحة العفن، فنمر بعد أن نحبس أنفاسنا خشية أن تظهر علينا علامات الاشمئزاز من تلك الرائحة، المفروض علينا أن نعتادها بسرعة حتى نتمكن من الاستمرار فى العمل.
فى الطابق الأول تختلط أصوات ماكينات الفرم الضخمة وآلات العجن برائحة عفنة- لا يمكن تحديد مصدرها- بدرجة يستحيل معها استنشاق هواء نقى فى أرجاء المكان، فما بين رائحة مساحيق من النشا والمواد الحافظة والألوان ونكهات الطعم وبين رائحة المواد العفنة يختفى الأكسجين النقى. تنقسم صالة العمل الكبرى إلى أربعة أماكن فى الجانب الأيمن منها تتم أولى خطوات تكوين اللانشون، إذ تظل فتيات صغيرات السن وقليلات الخبرة يعملن فى تفتيح أكياس المجمدات بأنواعها المختلفة.
سعيدات الحظ هن من يقفن على تفتيح أكياس الحواشى البقرية وهى المهمة التى كُلفنا بها طوال فترة عملنا، وقليلات الحظ من يطلب منهن تفتيح أكياس جلود الدجاج المجمدة، فالأخيرة ينبغى تفريغها على الأرض لتبدأ مرة أخرى فى حمل كل الكميات التى تم تفتيحها ونقلها إلى ماكينات الفرم، المشهد لا يخلو من «كزلك»- حذاء بلاستيك برقبة طويلة- لفتاة فى الخامسة عشرة من عمرها، وآخر لشاب فى ربيعه الثانى يتجولان وسط أكوام جلود الدجاج الملقاة على الأرض والتى ينبغى نقلها إلى ماكينات الفرم مباشرة دون غسلها، أو وضعها فى مكان بعيد عن حركة الأقدام التى كثيرا ما تخطئ طريقها فتدوس على الجلود مرتين أو ثلاث على الأقل
بجهد يفوق حجمها مرتين تدفع إحدى العاملات بيديها الصغيرتين «حلة» معدنية كبيرة ممتلئة بكميات الحواشى المجمدة وجلود الدجاج، تقترب نحو ماكينات الفرم، يتسلمها عامل آخر، وبقوة اعتاد عليها منذ ما يقرب من 8 أعوام هى فترة عمله بالمكان، يدفع عربة الخليط داخل المفرمة لتنتهى بذلك أولى خطوات صناعة اللانشون.. لا يقف دور عم حسن على وضع الخليط داخل الماكينة فعليه مهمة ثانية اكتسبها بمرور الوقت.. حيث يتناول بيده قليلاً من المفروم الناتج من الماكينة بين الحين والآخر ويقربه من أنفه ليشم رائحته، فإذا ما بدت له عفنة أخبر من حوله بما توصل إليه فى الخلطة، فتبدأ الاحتياطات المعروفة فى تلك الحالة وهى إضافة مواد حافظة ونكهات بكميات أكبر لتضيع تلك الرائحة.
المرحلة التالية لعملية الفرم هى «العجن» والتى تضاف فيها مساحيق تبدو للعاملين بالمكان هى سر الصنعة فعلى حد قول عم حسن: «لولا مادة الفريش سيل.. مكنش بقى فيه حاجة اسمها لانشون»، واصفا إياها بـ«المادة الغريبة التى لا يمكن لأحد أن ينكر مدى أهميتها فى إكساب المنتج طعما ورائحة تخفيان مكونات الخليط الأساسية».
بعفوية شديدة تحرص «عفاف» يوميا مع بداية وقوفها على آلة «العجن» أن ترتدى نظارة طبية محكمة الغلق على العينين أثناء فترة عملها.. لعلها تحميها من رذاذ المساحيق المستخدمة لإتمام عمل اللانشون والتى توضع بشكل عشوائى بعيدا عن أى معايير مطلوبة، فيكفى أن يتراكم على قرنية العينين ما يتطاير من كميات النشا الكبيرة المستخدمة والتى تتسبب فى احمرارهما طوال الوقت وإصابتهما بأمراض الحساسية المختلفة إلى جانب ما يصيبها من تشققات فى يديها بسبب إضافة كميات كبيرة من مكسبات الطعم أثناء العجن لإزالة رائحة العفن.
تظل الروائح الكريهة منتشرة بأرجاء المكان طيلة فترات العمل خاصة مع استخدام اللانشون المنتهى الصلاحية أثناء عملية التصنيع، حيث يهرب العمال بعيدا عنها تاركين تلك المهمة لـ«محمد» ذو التسع سنوات إذ يقتصر دوره على تجهيز اللانشون الفاسد وإزالة غلاف المصنع المحيط به ووضع القوالب العفنة فى حلل الحواشى لإعادة تصنيعها من جديد داخل ماكينات الفرم، «محمد» لا يشكو الرائحة ولا يجد فيها أزمة قدر ما يجد فى الكميات الكبيرة المرتجعة والتى ترهق جسده النحيل، فيقول «الواحد بيزهق من كتر ما بيشيل أغلفة من على اللانشون وده سلوك عام فى المكان هما ما بيرموش أى حاجة خالص.. مهما كان شكلها، كله بيتصنع»، تلك الكلمات تتردد كثيرا بين العمال، ولكنهم فى نفس الوقت لا يجدون حرجا فى تناول اللانشون كطعام يومى على الإفطار أو العشاء، خاصة أنهم يتناولون نوعاً آخر يخرج من نفس المكان، يلقبونه باللانشون الصحى، يعنون بذلك العبوات التى ينتجها المصنع مطابقة للمواصفات، ليتسلمها مندوبو وزارة الصحة كعينات للتأكد من صلاحية منتجات المصنع، وهى العينات التى تصف «نادية»- إحدى العاملات، طريقة تصنيعه بقولها «المواد المستخدمة فى اللانشون الصحى، تختلف كثيرا عن تلك الأنواع التى ينتجها المصنع ويعرضها للبيع، فهى عبارة عن لحوم نظيفة تُغسل بالمياه جيدا وتصنع بطرق نظيفة، لتنتج فى النهاية لانشون مطابقاً للمواصفات يذهب لوزارة الصحة».
فى منتصف يوم العمل تمر مفتشة الصحة، تنظر إلينا وهى تتابع مراحل العمل فى صمت، تكتفى بلفت نظر إحدى العاملات لرفع الحواشى المجمدة الملقاة على الأرض، تستمر جولتها بالمكان لبضع دقائق تخرج بعدها حاملة فى يدها المنتج الصحى، المطابق للمواصفات.
آخر مراحل صناعة اللانشون هى التدبيس وفيها يتم تغليف اللانشون باسم المصنع آليا مدوناً عليه تاريخ الإنتاج والصلاحية..يسدل ستار اليوم على عمال المصنع وهم ينقلون ما يقرب من30 ألف كيلو هو إنتاج المصنع يوميا ليصل الإنتاج السنوى إلى10 ملايين كيلو من اللانشون، وتنقل الكميات عبر عربات نقل مفتوحة إلى منافذ البيع المنتشرة فى جميع محافظات مصر.
ما تم رصده من مخالفات بيئية وصحية أثناء عملية التصنيع يعلق عليه الدكتور محمد عبد الله رئيس الإدارة العامة للرقابة على الأغذية التابعة لوزارة الصحة قائلا: «إن عدم وجود الشهادات الصحية للعاملين بمصانع الأغذية تعتبر جنحة يعاقب عليها القانون للعامل ولصاحب المصنع، ومثل هذه المخالفات يتم التعامل معها أولا بالتوجيه للعاملين وصاحب المصنع وإذا لم يستجب فإننا نوقع عليه غرامة مالية».
2 التعليقات:
لاحول ولا قوة الا بالله
لا أله الا الله .... حسبنا الله ونعم الوكيل...... بس ملحوظه لكاتب المقال ده بعد أذنه ليه موش كاتب اسم المنتج او العلامه التجاريه علشان تنقذ الفئه القليله اللي بتقرا كلامك موش تكتفي ب حرفين بس من أسمه وخصوصا انك بتقول انه بينتج كميات ضخمه من الانشون ومنافذ البيع منتشرة ع مستوي الجمهوريه وكفايه انك مدعم موضوعك بالصور .... وليه ما أتقدمتش للنيابه بالملف ده ..... رجاء منك تعلمنا باسم المصنع ده يمكن تقدر تنقذ طفل ولا قريب ليك من بعيد ولا أي مسلم ع الاقل من قسوة الالم ..... وأخيرا سيدي الفاضل تحياتي ليك ولمجهودك الجبار ده وربنا يعينك ويحفظنا ويحفظ كل مسلم ومصري من اي سوء ....
إرسال تعليق
شكرا لك